تمثل العملات المستقرة (Stablecoins) أحد أبرز الابتكارات في عالم المال الرقمي، بفضل ربط قيمتها بأصول مستقرة مثل الدولار أو الذهب، مما يجعلها أقل تقلباً من العملات المشفرة الأخرى.
لكن الجدل يتصاعد اليوم حول نموذج جديد يُطلق عليه "العملات المستقرة ذات العائد"، والتي لا تكتفي بالحفاظ على القيمة بل تقدم عوائد مالية للمُقتنين، مما قد يُعيد تشكيل النظام المالي التقليدي ويهدد وجود البنوك كما نعرفها. وهذا ما حذرت منه مؤخراً السيناتور الأمريكية كيرستن جيليبراند، في ظل نقاشات تشريعية ساخنة حول كيفية تنظيم هذه الأصول.
العملات المستقرة ذات العائد تهدد البنوك التقليدية
العملات المستقرة ذات العائد تسمح لحامليها بكسب فوائد أو عوائد من خلال الاحتفاظ بها، إما عبر إقراضها لمنصات التمويل اللامركزي (DeFi) أو من خلال آلية مُدارة من قبل المُصدر نفسه. هذه الميزة تجعلها منافساً قوياً للودائع البنكية التقليدية، التي تُقدم عادةً عوائد ضئيلة مقارنةً بالمخاطر والقيود المفروضة على السحب.
وفقاً للسيناتور Gillibrand، النائبة البارزة في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك، فإن السماح لهذه العملات بتقديم عوائد دون تنظيم صارم قد يؤدي إلى "انهيار النظام المصرفي"، لأن المستثمرين سيُفضلون تحويل أموالهم من البنوك المحلية إلى هذه الأدوات ذات العوائد الأعلى.
وبالتالي، ستفقد البنوك المصدر الرئيسي لتمويل أنشطتها، مثل منح القروض العقارية أو قروض الأعمال الصغيرة، مما يُهدد استقرار الاقتصاد بأكمله.
قالت Gillibrand في قمة بلوك تشين بواشنطن:
"إذا استطاعت العملات المستقرة تقديم عوائد، فلن يكون هناك سبب لإيداع الأموال في البنوك... ومن سيمنحك قرضاً عقارياً حينها؟"
تحذيرات السيناتور كيرستن جيليبراند
أكدت السيناتور أن مصدري العملات المستقرة لا ينبغي أن يتمتعوا بحماية مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية (FDIC)، التي تضمن ودائع العملاء في البنوك حتى 250 ألف دولار. بحسب رأيها، هذه الحماية مُخصصة للبنوك التي تخضع لرقابة صارمة وتلتزم بقواعد الإقراض والاحتياطي، بينما العملات المستقرة لا تُشارك في هذه الأنشطة رغم أنها قد تُقدم خدمات مالية مشابهة.
كما دعت إلى فرض لوائح مالية صارمة على جميع مصدري العملات المستقرة، سواء كانوا خاضعين لتنظيم ولايات أو فيدرالي، لضمان التزامهم بقوانين مكافحة غسل الأموال (AML) ومعرفة العميل (KYC)، وحماية المستهلك من المخاطر المحتملة.
وتُشير جيليبراند إلى أن نيويورك تُعد نموذجاً يحتذى به في التنظيم المالي، حيث تفرض تراخيص صعبة (مثل ترخيص BitLicense) على شركات العملات المشفرة.
محاولة لتنظيم العملات المستقرة أم فرض سيطرة؟
تُعد جيليبراند أحد الرعاة الرئيسيين لمشروع قانون GENIUS، الذي قدمه السناتور بيل هاغيرتي في فبراير 2025، بهدف إنشاء إطار تنظيمي شامل للعملات المستقرة. ومن أبرز بنود هذا التشريع:
- اشتراطات مكافحة غسل الأموال عبر التحقق من هوية المستخدمين.
- الشفافية المالية من خلال الإفصاح عن الاحتياطيات التي تدعم العملة.
- ضوابط حماية المستهلك، مثل حق المستخدم في استرداد أمواله عند الطلب.
وفي تحديث مارس 2025، أضاف هاغيرتي بنوداً أكثر صرامة، مثل تقييد تقديم العوائد إلا في حالات محددة، ما يعكس مخاوف جيليبراند من تأثيرها على البنوك.
وقد حصل التشريع على موافقة أولية من لجنة الخدمات المصرفية بالمجلس بتصويت 18 مقابل 6، لكنه ما يزال بحاجة لإقراره من الكونغرس والرئيس.
اتهامات للعملة الرقمية الحكومية (CBDC)
رغم الأهداف المعلنة، يتهم منتقدون مشروع GENIUS بأنه يُسهِّل الطريق لإصدار عملة رقمية للبنك المركزي (CBDC) عبر شركات خاصة، مما يمنح الحكومة سيطرة غير مسبوقة على المعاملات المالية. فبحسب جان راوسيس، مؤسس منصة Smardex اللامركزية، فإن العملات المستقرة المركزية تفتح الباب أمام:
- الرقابة المالية: قدرة الحكومة على تجميد أموال الأفراد أو منعهم من استخدام النظام.
- تتبع المعاملات: انتهاك خصوصية المستخدمين تحت ذرائع مكافحة الجريمة.
ويحذر راوسيس من أن الاعتماد الكبير على العملات المستقرة المركزية قد يُعيد إنتاج نظام مصرفي مركزي ضعيف، لكنه هذه المرة تحت سيطرة كيانات خاصة مرتبطة بالحكومة.
كيف تولد العملات المستقرة عوائدها؟
لفهم التهديد الذي تشكله هذه العملات على البنوك، يجب النظر في آليات توليد العوائد:
- الإقراض عبر منصات التمويل اللامركزي (DeFi): تُقرض العملات المستقرة للمشاركين في بروتوكولات مثل Aave أو Compound، مقابل فائدة تصل أحياناً إلى 10% سنوياً، مقارنةً بـ 0.5% في المتوسط للودائع البنكية.
- الاستثمار في أصول ذات عائد: قد تستثمر بعض الشركات احتياطيات العملات المستقرة في سندات الخزينة الأمريكية أو الأصول منخفضة المخاطر، وتوزع جزءاً من العائد على الحاملين.
- الحوافز الترويجية: تقدم بعض المنصات عوائد مرتفعة مؤقتة لجذب المستخدمين، مما يخلق منافسة غير عادلة مع البنوك.
التأثير على القروض العقارية وقروض الأعمال الصغيرة
البنوك تعتمد على الودائع لتمويل أنشطة الإقراض. إذا هربت الودائع إلى العملات المستقرة، فإن:
- تكلفة الاقتراض سترتفع، لأن البنوك ستضطر لجذب الأموال بأسعار فائدة أعلى.
- توفر القروض سينخفض، خاصة للشركات الناشئة والأفراد ذوي الدخل المحدود، الذين تعتمد عليهم البنوك المحلية.
- الاقتصاد المحلي قد يتباطأ، إذ تشير بيانات مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى أن 70% من القروض العقارية في الولايات المتحدة تصدرها بنوك صغيرة ومتوسطة.
كيف تتعامل دول أخرى مع هذا التحدي؟
- الاتحاد الأوروبي: فرض قانون أسواق الأصول المشفرة (MiCA) حظراً على العملات المستقرة ذات العائد إلا إذا حصلت على ترخيص مصرفي، مع اشتراطات صارمة للاحتياطيات.
- سنغافورة: سمحت بوجودها لكن مع تحديد سقف للعائد لا يتجاوز متوسط الفائدة البنكية، لمنع هروب الودائع.
- الصين: حظرتها تماماً، معتبرة إياها تهديداً لسيادة اليوان الرقمي (e-CNY).
هل يمكن للبنوك التقليدية أن تتبنى الابتكار؟
بعض البنوك بدأت تدمج التكنولوجيا المالية (FinTech) للبقاء قادرة على المنافسة:
- بنك جي بي مورجان: أطلق عملته المستقرة JPM Coin لتحويلات الشركات، لكنها لا تقدم عوائد.
- بنك أوف أمريكا: يستثمر في منصات DeFi بشكل غير مباشر عبر صناديق استثمارية.
لكن هذه الخطوات لا تزال محدودة مقارنة بمرونة العملات المستقرة المستقلة.
المستقبل: صراع بين الابتكار والتنظيم
يُظهر الجدل حول العملات المستقرة ذات العائد التحدي الكلاسيكي بين الابتكار المالي والحاجة إلى ضمان الاستقرار. فمن ناحية، تُقدم هذه الأدوات فرصاً لتحسين كفاءة الأسواق وتمويل الأفراد غير المتعاملين مع البنوك. ومن ناحية أخرى، فإن عدم تنظيمها قد يُفقد الثقة في النظام المالي برمته.
لو انتصرت العملات المستقرة قد تحدث السيناريوهات التالية:
- تفكك النظام المصرفي التقليدي: تحول البنوك إلى وسطاء ثانويين، بينما تصبح المنصات الرقمية هي القناة الرئيسية للادخار والاقتراض.
- توسع الفجوة المالية: قد تزداد الفوارق بين من يملكون معرفة تقنية للاستثمار في العملات المستقرة، ومن يفتقرون إليها.
- تدخل الحكومات بقوة: قد تفرض دول حظراً كاملاً، أو تطلق عملات رقمية حكومية (CBDCs) كبديل مُسيطر عليه.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يجب كبح الابتكار لحماية البنوك التقليدية، أم أن على هذه البنوك أن تتطور لتواكب العصر الرقمي؟ الإجابة قد تحدد مصير النظام المالي العالمي في العقود القادمة.